أوسكار وايلد / الأمير السعيد
show demo
español
русский
português
日本語
italiano
deutsch
français
english
中文
العربية
ελληνικά











أوسكار وايلد


الأمير السعيد











        الرسومات: تشارلز روبنسون   – من ترجمة متاحة على الإنترنت –









  أعلى المدينة، وعلى قاعدة عمودية طويلة، وقف تمثال الأمير السعيد. كان مطلي برقائق رفيعة من الذهب الخالص النقي، وكانت عيناه جوهرتين زرقاوين ملتمعين، وقد استقرت ياقوتة ضخمة حمراء تتوهج على مقبض سيفه.


  لقد كان محل إعجاب على مدى واسع بحق. فعلق عليه أحد أعضاء مجلس المدينة: "إنه لجميل جمال ديك الرياح" متمنياً أن يحصل على سمعة حسنة في التذوقات الفنية، وأضاف: "ولكنه غير مفيد بالمرة" مخافة أن يعتقد الناس أنه غير عملي، حيث أنه في الحقيقة لم يكن.


  وقالت أم، حساسة الشعور، لابنها الصغير الذي كان يبكي طالباً شيئاً مستحيلاً: "لمَ لا يمكنك أن تصبح مثل الأمير السعيد؟ إن الأمير السعيد لم يبكي أبداً طلباً لأي شيء."


  وغمغم رجل مُخَيَّب الآمال وهو يحدق إلى التمثال الرائع: "إني مبتهج لوجود شخص ما في العالم سعيد بالفعل."


  وقال أطفال المؤسسة الخيرية: "إنه يبدو كَمَلَك بالضبط" حيث خرجوا من الكاتدرائية لابسين عباءات قرمزية لامعة ومآزر بيضاء نظيفة بلا أكمام.


  فرد عليهم أستاذ الرياضيات: "كيف عرفتم؟ أنتم لم تشاهدوا ملكاً مطلقاً."


  فأجابوا: "حسناً... ولكننا شاهدناهم في أحلامنا." فعبس أستاذ الرياضيات وبدا متجهما للغاية، حيث أنه لم يتقبل فكرة أحلام الأطفال.


  ذات ليلة، طار سنونو صغير أعلى المدينة، وكان قد ذهب أصحابه إلى مصرمنذ ستة أسابيع، ولكنه تخلف عنهم، لوقوعه في حب مع أجمل قصبة. لقد قابلها في أوائل الربيع، حيث كان يطير بمحازاة النهر وراء فراشة صفراء كبيرة، وكلن معجباً ومفتوناً بخصرها الرفيع، حتى أنه توقف عن الكلام معها.


  "هلا بادلتيني الحب؟" قالها السنونو الذي أحب أن يدخل في صميم الموضوع دون مقدمات. فانحنت له القصبة في انخفاض، فطار حولها لامساً المياه بجناحيه، صانعاً مويجات فضية. تلك كانت مغازلته. وظل هكذا طيلة فصل الصيف.


  سقسقت الخطاطيف الأخرى في ثرثرة: "إنها لعلاقة عاطفية سخيفة... إنها لا تملك نقوداً، ومتعددة العلاقات إلى حد بعيد." وبالفعل، كان النهر ممتلئ عن آخره بالقصب. وعندما أتى الخريف، طاروا بعيداً كلهم.


  بعدما ذهبت الخطاطيف، شعر بالوحدة، وبداً يضجر من محبوبته، وقال: "إنها لا تحادثني، وإني لأخشى أن تكون قصبة مغناج، فإنها تتراقص دائماً في غزل مع الرياح." وبالطبع، فكلما هبت الرياح، كلما صنعت تلك القصبة هذه الانحناءات المحترمة الرشيقة للغاية. تابع السنونو: "إني أسلم بأنها تحب مكانها، ولكني أحب الترحال، وبناءً على ذلك يجب على زوجتي أن تحب الترحال أيضاً."


  "هل ستذهبين معي بعيداً؟" قال ذلك أخيراً لها، ولكن القصبة هزت رأسها، وكانت مرتبطة جداً بوطنها.


  فصاح فيها "لقد كنتِ تافهة معي... إني لذاهب إلى الأهرام، وداعاً." وطار بعيداً.


  طار طوال النهار كله، وفي الليل وصل إلى المدينة، وقال: "أين يا ترى سأهبط بالضبط؟ أتمنى أن تكون للمدينة إعدادات."






  ثم رأى التمثال على القاعدة العمودية الطويلة، وصاح: "سأنزل هنا، إنه لموقع حسن ذو وفرة من الهواء النقي." وهكذا حط بالضبط بين قدمي الأمير السعيد.


  "إن لدي سرير ذهبي" قالها بنعومة لنفسه وهو ينظر حوله، واستعد للخضوع للنوم، ولكن بينما كان يضع رأسه تحت جناحه، سقطت قطرة كبيرة من الماء عليه، فصاح: "يا له من شيء غريب! إنه لا وجود لسحابة واحدة في السماء، والنجوم واضحة جداً ولامعة، وحالياً تمطر! إن مناخ شمال أوروبا لمفزع حقاً... القصبة اعتادت أن تحب المط، ولكن هذا كان مجرد لأنانيتها لا غير."


  ثم سقطت قطرة أخرى.


  "ما فائدة التمثال إذا كان لا يصد الأمطار؟" قالها السنونو: "يجب أن أبحث عن مدخنة جيدة" وعزم أن يطير بعيداً.


  ولكن قبل أن يفتح جناحيه، سقطت قطرة ثالثة، فنظر أعلاه، ورأى..! حسناً، ماذا رأى؟


  كانت أعين الأمير السعيد مملوءة بالدموع، والدموع كانت تنهمر أسفل وجنتيه الذهبيتين. كان وجهه جميلاً للغاية في ضوء القمر، حتى أن السنونو الصغير بدا في قمة الشفقة.


  قال السنونو: "من أنت؟"


  "أنا الأمير السعيد."


  سأله السنونو: " فلماذا تبكي إذن؟ لقد بللتني تماماً."


  أجابه التمثال: "عندما كنت حياً وأملك قلب إنسان، لم أكن أعلم للدموع طريقاً. فقد عشت في قصر سانس–سوسي حيث لا مكان للحزن... في الصباح كنت ألعب مع رفقائي في الحديقة، وفي المساء أبدأ الرقص في الردهة الكبيرة. حول الحديقة التف سور شامخ للغاية، ولكني لم أهتم بمعرفة ماذا يركد وراءه، فكل شيء عندي ويخصني كان جميلاً جداً. حتى أن رجال الحاشية دعوني الأمير السعيد. وحقاً قد كنت سعيداً، إذا كانت اللذة هي السعادة... هكذا عشت، وهكذا مت. والآن وقد مت، وضعوني هنا في هذا الارتفاع الأقصى، حيث يمكنني رؤية كل الفظائع البشعة وكل البؤس والتعاسة لدي مدينتي. ومع ذلك قلبي صُنِع من رصاص. والآن، لا يمكنني أن أختار سوى البكاء."


  قال السنون في نفسه: "ماذا! أليس هو مصمت ذهباً؟" لقد كان كيساً جداً في حرصه على عدم اطلاق أي تعبير شخصي بصوت عالٍ.


  "على بُعد كبير" تابع التمثال كلامه في نغمة موسيقية خفيفة: "على بعد كبير، في طريق صغير، هناك بيت فقير. أحد النوافذ مفتوحة، ومن خلالها يمكنني أن أرى امرأة جلست نحو منضدة، وجهها رفيع وهزيل، ولديها يدين خشنتين حمراوين، مثقوبتين من أثر الإبرة، فهي حائكة، تطرز شكل أزهار الآلام على رداء من ساتان سيذهب إلى أحب وصيفة من وصائف الملكة لترتديه في الحفل الملكي القادم. وفي ركن الغرفة، يرقد ابنها الصغير في السرير مريضاً. عنده حمى ويريد برتقالاً. وأمه ليس لديها شيء لتعطيه له سوى ماء النهر، وها هو يبكي. يأيها السنونو، يأيها السنونو... أيها السنونو الصغير، ألن تحضر لها الياقوتة الحمراء التى على مقبض سيفي؟ إن قدمي مثبتة بإحكام بهذه القاعدة ولا يمكنني أن أتحرك."




أحب وصيفة من وصائف الملكة

قصر سانس–سوسي




  فقال السنونو: "ولكن هناك من ينتظرني بمصر. أصدقائي يطيرون أعلى وبمحاذاة النيل، ويكلمون أزهار اللوتس الضخمة. وقريباً سيذهبون للنوم في مقبرة الملك العظيم. الملك هناك بنفسه في تابوته الملون، ملفوف بكفن أصفر من الكتان، ومحنط بالتوابل، وحول رقبته سلسلة من اليشم الشاحب، ويداه كأوراق الشجر الذابلة."


  "يأيها السنونو، يأيها السنونو... أيها السنونو الصغير" قالها الأمير: "ألن تبقى معي لليلة واحدة ، وتكون رسولي؟ إن الصبي عطشان جداً، والأم في غاية الحزن."


  أجاب السنون: "أنا لا أعتقد أني أحب الصبيان... في الصيف الماضي، عندما كنت ماكثاً على النهر، كان هناك صبيان مشاغبان، أولاد الطحان. كانا يقذفان الأحجار علىَّ دائماً، ولكنهما لم يصيباني في أي مرة. فبالطبع، نحن الخطاطيف نطير بعيداً جداً لأجل ذلك. غير أني أنحدر من عائلة مشهورة بخفة حركتها وسرعة بداهتها. ولكن ما حدث، كان علامة على عدم الإحترام."


  ولكن الأمير السعيد بدا حزيناً جداً، وأشفق عليه السنونو وقال: "الجو شديد البرودة هنا، ولكني سأنتظر معك لليلة واحدة، وأكون رسولك."


  قال الأمير: "شكراً لك أيها السنونو الصغير."






  وهكذا نزع السنونو الياقوتة الضخمة من سيف الأمير، وطار بها بعيداً أعلى سطوح المدينة، ممسكاً إياها بمنقاره.


  لقد مر بميدان الكاتدرائية، حيث نُحتت الملائكة الرخامية البيضاء. ومر بالقصر وسمع صوت الرقص. فتاة جميلة تأتي إلى الشرفة بمرافقة محبوبها ، ويقول لها: "ما أروع النجوم... ما أعجب قوة الحب!"


  فتجيبه: "آمل أن يكون ثوبي جاهزاً للحفل الملكي... لقد أمرت أن تُطرز أزهار الآلام عليه، ولكن الخياطين كسالى جداً."


  مر السنونو فوق النهر، ورأى المنارات وهي تهدي صواري المراكب. ومر فوق الغيت، ورأى اليهود المسنين يتقايضون مع بعضهم، ويزنون النقود في كفوف الميزان النحاسية. أخيراً وصل إلى البيت الفقير ونظر داخله. كان الصبي يرتجف على سريره من الحمى، والأم قد غلبها النوم، كانت متعبة جداً. قفز السنونو، و وضع الياقوتة الضخمة على المنضدة بجوار كشتبان السيدة. ثم طار بخفة حول السرير يهوي جبهة الصبي بجناحيه. فيقول الصبي: "كم أشعر بالانتعاش! لابد أني أتحسن" ويغوص في سبات لذيذ.


  ثم طار السنونو عائداً إلى الأمير السعيد، وأخبره بما فعله، وعلق قائلاً: "غريب .. إني أشعر بالدفء الآن، رغم أن الجو بارد جداً."


  فقال الأمير: "هذا لأنك فعلت فعلاً حسناً." فبدأ السنونو في التفكير، ثم راح في النوم. التفكير دائماً ما يجعله نعسان.


  عندما مضى اليوم، طار أسفل النهر واستحم. "يا لها من ظاهرة غير عادية." قالها أستاذ علم الطيور عندما كان يعبر الجسر: "سنونو في الشتاء!" وكتب رسالة طويلة عن ذلك للجريدة المحلية. الكل استشهد بها على أنها مليئة بكلمات لم يستطيعوا أن يفهموها.


  قال السنونو مبتهجاً عند ذلك المنظر: "إني لذاهب الليلة إلى مصر." لقد زار كل المعالم والآثار المدنية، وجلس لمدة طويلة على قمة برج الكنيسة، أينما ذهب تسقسق العصافير، وتقول لبعضها: "يا له من غريب مميز!" فنعم بنفسه كثيراً.


  وعندما بزغ القمر، طار راجعاً إلى الأمير السعيد. وصاح: "ألديك أي تكليف لي بمصر؟ إني على وشك الرحيل."


  " يأيها السنونو، يأيها السنونو، أيها السنونو الصغي" قالها الأمير: "ألن تبقى معي لليلة أخرى؟"






  أجاب السنونو: "ولكن هناك من ينتظرني بمصر... غداً سيحلق أصحابي فوق الشلال الثاني. فرس النهر يضطجع هناك وسط نباتات البردي، وعلى عرش جيرانيتي عظيم يجلس الإله ممنون. طيلة كل ليلة يشاهد النجوم، وعندما يشرق نجم الصباح يبكي باطلاق من شدة السعادة، ثم يصمت. وعند الظهر تهبط الأسود الصفراء عند حافة المياه لتشرب. لديهم عيون مثل البريل الأخضر، وزئيرهم أعلى من هدير الشلال."


  "يأيها السنونو، يأيها السنونو، أيها السنونو الصغير" قالها الأمير: "بعيداً عبر المدينة أرى شاباً في الحجرة العلوية. إنه يستند على مكتب مغطى بالأوراق، وبجانبه كأس به باقة من البنفسج الذابل. شعره بني متموج، وشفتاه حمراوان مثل الرمان، ولديه عينان واسعتان حالمتان. إنه يحاول أن ينهي مسرحية لمخرج المسرح، ولكنه يتجمد برداً ولا يستطيع أن يكتب بعد الآن. لا توجد نيران في المدفأة، والجوع قد أضعفه وأصابه بالدوار."


  "سوف أنتظر معك لليلة أخرى" قالها السنونو الذي يحمل بحق قلباً طيباً: "هل آخذ له ياقوتة أخرى؟"


  قال الأمير: " واحسرتاه! لم يعد لدي ياقوت... كل ما لدي الآن هما عيناي. إنهما مصنوعتان من صفير نادر مجلوب من الهند منذ آلاف السنين. اقتلع واحدة منهما وخذها له. سوف يبيعها للصائغ، ويشتري طعاماً وحطباً للنار، وينهي مسرحيته."


  قال السنونو: "أيها الأمير العزيز. لا أستطيع أن أفعل ذلك." وبدأ في البكاء.


  "يأيها السنونو، يأيها السنونو، أيها السنونو الصغير" قالها الأمير: " افعل كما آمرك."


  وهكذا اقتلع السنونو عين الأمير، وطار إلى حجرة الطلاب العلوية. كان سهلاً بما في الكفاية لأن يدخل، حيث كان هناك ثقب في السطح، اندفع كالسهم من خلاله، ودخل في الغرفة. قد دُفِنَت رأس الشاب بين يديه، فلم يسمع رفرفة جناحي الطير، وعندما رفع رأسه وجد الجوهرة الزرقاء ترقد على البنفسج الذابل.


  فصاح: "لقد بدأت أُقَدَّر حق قدري... هذا من بعض المعجبين العظام. الآن يمكنني إنهاء مسرحيتي." وبدا سعيداً للغاية.


  في اليوم التالي طار السنونو إلى المرفأ. جلس على سارية مركب هائل، وشاهد البحارة يسحبون صناديق كبيرة قد رُبِطَت بالأحبال ، صائحين: "هيلا، ارفع!" مع كل صندوق يتم رفعه. وصاح السنونو: "إني ذاهب إلى مصر!" ولكن لم يعره أحد اهتماماً. وعندما بزغ القمر، طار عائداً إلى الأمير السعيد.


  "لقد جئت لأودعك" قالها السنونو في التماس.


  "يأيها السنونو، يأيها السنونو، أيها السنونو الصغير" قالها الأمير: "ألن تبقى معي لليلة أخرى؟"


  أجاب السنونو: "لقد حل الشتاء، والجليد البارد في طريقه إلى الوجود. في مصر الشمس دافئة على سعف النخل الأخضر، والتماسيح تركد في الطين ويحرسون أنفسهم بكسل. رفقائي يبنون عشاً في معبد بعلبك، ويشاهدهم الحمام الوردي والأبيض ويسجعون لبعضهم. عزيزي الأمير، يجب أن أتركك، ولكني لن أنساك أبداً، وفي الربيع القادم سوف أحضر لك جوهرتين جميلتين لتحل محل ما قد أخرجته. الياقوتة ستكون أكثر حمرة من الزهرة الحمراء، والصفير سيكون أزرق كزرقة البحر العظيم."


  "في الميدان" قالها الأمير: "تقف فتاة صغيرة بائعة أعواد ثقاب. لقد سقطت أعوادها في البالوعة، وقد تلفت جميعها. سيضربها أبوها إن لم تحضر بعض المال إلى البيت، وها هي تبكي. إنها حافية وبلا جوارب، ورأسها الصغير عارٍ. اقتلع عيني الأخرى وأعطها إياها، فلن يضربها أبوها عندئذٍ."


  قال السنونو: "سوف أبقى معك لليلة أخري، ولكن لا يمكنني أن أقتلع عينك. ستصبح أعمى تماماً هكذا."


  "يأيها السنونو، يأيها السنونو، أيها السنونو الصغير" قالها الأمير: "افعل كما آمرك."


  وهكذا اقتلع العين الأخرى للأمير، واندفع بها كالسهم. انطلق ماراً فوق الفتاة بائعة أعواد الثقاب، وأفلت الجوهرة لتسقط في راحة يدها. فصاحت الفتاة الصغيرة: "يالها من كسرة زجاج جميلة" وركضت إلى بيتها ضاحكة.






  ثم رجع السنونو إلى الأمير. وقال: "إنك مكفوف الآن. لذا فسأبقى معك دائماً."


  فقال الأمير المسكين: "لا أيها السنونو الصغير. يجب عليك أن ترحل إلى مصر."


  "بل إني سأبقى معك دائماً" قالها السنونو، ونام بين قدمي الأمير.


  طوال اليوم التالي جلس على كتف الأمير، وظل يخبره بقصص ما قد رآه في المدن الغريبة. فأخبره عن طيور أبي منجل الحمراء، التي تقف في صفوف طويلة على ضفاف النيل، ويلتقطون أسماكاً ذهبية بمناقيرهم. وعن أبي الهول القديم قِدم العالم نفسه، والذي يعيش في الصحراء، ويعرف كل شيء. وعن التجار الذين يمشون ببطء بجوار إبلهم، ويحملون سبح كهرمانية بين أيديهم. وعن ملِِك جبال القمر، الأسود سواد الأبنوس، والذي يبجل بلورة ضخمة. وعن الحية الخضراء العظيمة التي تنام في نخلة، ولديها عشرون كاهناً يطعمونها بكعك العسل. وعن الأقزام الذين يبحرون في بحيرة كبيرة على أوراق نباتية عريضة، ودائماً في حالة عراك مع الفراشات.


  قال الأمير: "عزيزي السنونو الصغير، لقد أخبرتني بأشياء عجيبة، ولكن الأكثر عجباً من أي شيء هو معاناة الرجال والنساء، فليس هناك لغز أعظم من البؤس. حلِّق فوق مدينتي أيها السنونو، وأخبرني بما ترى."



رأى الأغنياء يمرحون في بيوتهم الجميلة
بينما المتسولون يجلسون عند البوابات

ملِِك جبال القمر




  وهكذا حلَّق السنونو فوق المدينة الواسعة، ورأى الأغنياء يمرحون في بيوتهم الجميلة، بينما المتسولون يجلسون عند البوابات. وطار بين الأزقة المظلمة، ورأى الأوجه البيضاء للأطفال المتضورين جوعاً. يبدون فاترين في الشوارع الكحلاء. تمدد صبيان تحت قنطرة الجسر محتضنين بعضهما للحفاظ على دفئهما، ويقولان: " كم نحن جوعى!" ويزعق الخفير فيهم: "يجب ألا تستلقيا هنا" فهاما خارجين تحت المطر.





  ثم طار عائداً إلى الأمير وأخبره بما رآه.


  "إني مغطى بذهب خالص" قالها الأمير: "يجب أن تخلعه، رقاقة تلو الرقاقة، ثم أعطهم لفقرائي. فدائماً ما يظن الناس الأحياء أن الذهب يمكنه إسعادهم."


  فنزع السنونو الذهب الخالص، الرقاقة تلو الرقاقة ، حتى بدا الأمير السعيد رمادياً وباهتاً تماماً. رقاقة تلو الرقاقة من الذهب النقى أحضرها إلى الفقراء، فأصبحت وجوههم أكثر نضرة، وأخذوا يضحكون ويلعبون الألعاب في الشارع، ويصيحون: "لدينا الخبز الآن!"


  ثم تساقط الثلج، وبعد الثلج أتى الصقيع. بدت الطرق وكأنها صُنِعت من الفضة، كانت براقة جداً ومتلألئة. وتدلت كتل جليدية كالخنجر البلوري أسفل طُنُف البيوت. الجميع يجولون بملابس مبطنة بالفرو، وارتدى الصبية الصغار قلانيس قرمزية منصرفين على الجليد.


  بات السنونو المسكين شاعراً بالبرد أكثر فأكثر، ولكنه لم يترك الأمير، فلقد أحبه حباً جماً. والتقط فُتات الخبز من خارج باب المخبز حيث لم يكن الخباز ناظراً. وحاول جعل نفسه دافئاً برفرفة جناحيه.






  ولكن أخيراً، علم أنه في طريقه إلي الموت. وبالكاد كانت لديه قوة لأن يطير إلى كتف الأمير مرة أخرى. وهمس: "وداعاً عزيزي الأمير... هل تدعني أُقَبِّل يدك؟"


  فقال اتلأمير: "إني لمسرور لذهابك إلى مصر أخيراً، أيها السنونو الصغير... لقد بقيت لمدة طويلة ها هنا، ولكنك يجب أن تقبلني من شفتيَّ، لأني أحبكَ."


  "ليست مصر هي التي سأذهب إليها" قالها السنونو: "إني لذاهب إلي بيت الموت. الموت شقيق النوم، أليس كذلك؟"


  ثم قبل الأمير السعيد من شفتيه، وسقط ميتاً عند قدميه.


  في هذه اللحظة سُمِع صوت انشقاق غريب داخل التمثال، كأن شيئاً قد كُسر. الحقيقة أن القلب الرصاصي قد انقصف إلى نصفين. بالطبع كان متجمداً بشكل مفزع.






  في الصباح الباكر لليوم التالي كان المحافظ يمشي في الميدان مع فرقة من أعضاء مجلس المدينة. وعندما مروا بالقاعدة العمودية، نظر أعلى إلى التمثال وقال: "ياللخيبة! كم يبدو الأمير السعيد بالياً!"


  "بالياً بالفعل!" قالها أعضاء مجلس المدينة صائحين، موافقين على ما يقوله المحافظ دائماً، ثم اشرأبوا ناظرين إلى التمثال.


  قال المحافظ: "لقد سقطت الياقوته من سيفه، وذهبت عيناه، ولم يعد مذهباً بعد الآن... في الحقيقة، إنه أقرب شأناً من شحاذ!"


  "أقرب شأناً من شحاذ!" قالها الأعضاء.


  تابع المحافظ: "وفي الواقع هناك طائر ميت عند قدمه... ويجب علينا حقاً أن نصدر بلاغاً بأنه غير مسموح للطيور بأن تموت هنا" وقام كاتب المدينة بتدوين هذا الاقتراح في مذكرة.


  وهكذا سحبوا تمثال الأمير السعيد أرضاً. وقال دكتور الفنون الجميلة بالجامعة: "إنه لم يعد جميلاً ، فلم يعد ذا فائدة."


  ثم أذابوا التمثال في الفرن، وقام المحافظ بتحديد زيارة إلى مجلس المدينة ليقرر ماذا يُفعل بالمعدن . وقال: "بالطبع يجب أن نحصل على تمثال آخر... وسوف يكون تمثالاً لي."


  "تمثالاً لي!" قالها الأعضاء، ثم تنازعوا. وكان آخر ما سُمِع منهم أنهم مازالوا يتنازعون.






  "ياله من أمر غريب!" قالها مشرف عمال المسبك: "هذا القلب الرصاصي المكسور لن ينصهر في الفرن. يجب أن نلقيه بعيداً" فالقوا به على كومة من الثرى حيث كان يرقد كذلك السنونو الميت.



  "أحضر لي أنفس وأعز شيئين في المدينة" قالها الله إلى أحد ملائكته، فأحضر له المَلَكُ القلبَ الرصاصي والطائر الميت.


  فقال الله: " لقد أصبت الاختيار، ففي جنة فردوسي سيغني هذا الطائر الصغير إلى الأبد، وفي مدينتي الذهبية سوف يمجدني الأمير السعيد."















أنت، الذي أعطيت لكل شيء سببا،
 قل لي لماذا تفعل كل هذا؟





.      
show demo
 
 
 
.